[size=24]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمنِ الرَّحيِم اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمينَ ، [ وَ الصَّلاَةُ عَلى مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْمُرْسَلينَ ] .
أُوصيكُمْ ، عِبَادَ اللَّهِ ، بِتَقْوَى اللَّهِ ، وَ أَحْمُدُ إِلَيْكُمُ اللَّهَ الَّذي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ .
أَوَّلُ كُلِّ شَيءٍ وَ آخِرُهُ ، وَ مُبْتَدِئُ كُلِّ شَيْءٍ وَ مُعيدُهُ
كُلُّ شَيْءٍ خَاشِعٌ لَهُ ، وَ كُلُّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِهِ ، وَ كُلُّ شَيْءٍ ضَارِعٌ إِلَيْهِ ، وَ كُلُّ شَيْءٍ مُشْفِقٌ مِنْهُ .
خَشَعَتْ لَهُ الأَصْوَاتُ ، وَ قَامَتْ بِأَمْرِهِ الأَرْضُ وَ السَّموَاتُ ، وَ ضَلَّتْ دُونَهُ الأَعْلاَمُ ، وَ كَلَّتْ دُونَهُ الأَبْصَارُ .
سُبْحَانَهُ مَا أَعْظَمَ شَأْنَهُ ، وَ أَجَلَّ سُلْطَانَهُ
أَمْرُهُ قَضَاءٌ وَ حِكْمَةٌ ، وَ رِضَاهُ أَمَانٌ وَ رَحْمَةٌ ، وَ كَلاَمُهُ نُورٌ ، وَ سَخَطُهُ عَذَابٌ .
وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ، شَديدُ النَّقْمَةِ ، قَريبُ الرَّحْمَةِ
يَقْضي بِعِلْمٍ ، وَ يَعْفُو بِحِلْمٍ ، غِنى كُلِّ فَقيرٍ ، وَ عِزُّ كُلِّ ذَليلٍ ، وَ قُوَّةُ كُلِّ ضَعيفٍ ، وَ مَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ .
يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ الصُّدُورُ ، وَ مَا تَخُونُ الْعُيُونُ ، وَ مَا في قَعْرِ الْبُحُورِ ، وَ مَا تُرْخى عَلَيْهِ السُّتُورُ .
اَلرَّحيمُ بِخَلْقِهِ ، الرَّؤُوفُ بِعِبَادِهِ ، عَلى غِنَاهُ عَنْهُمْ وَ فَقْرِهِمْ إِلَيْهِ.
مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ ، وَ مَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ ، وَ مَنْ عَاشَ فَعَلَيْهِ رِزْقُهُ ، وَ مَنْ مَاتَ فَإِلَيْهِ مُنْقَلَبُهُ.
اَللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلى مَا تَأْخُذُ وَ تُعْطي ، وَ عَلى مَا تُعَافي وَ تَبْتَلي ، وَ عَلى مَا تُميتُ وَ تُحْيي ،
حَمْداً يَكُونُ أَرْضَى الْحَمْدِ لَكَ ، وَ أَحَبَّ الْحَمْدِ إِلَيْكَ ، وَ أَفْضَلَ الْحَمْدِ عِنْدَكَ ، حَمْداً يَمْلأُ مَا خَلَقْتَ ، وَ يَبْلُغُ
مَا أَرَدْتَ ، حَمْداً لاَ يُحْجَبُ عَنْكَ ، وَ لاَ يُقْصَرُ] دُونَكَ ، وَ يَبْلُغُ فَضْلَ رِضَاكَ ، حَمْداً يَفْضُلُ حَمْدَ مَنْ مَضى ، وَ يَعْرِفُ حَمْدَ مَنْ بَقى ، حَمْداً لاَ يَنْقَطِعُ عَدَدُهُ ، وَ لاَ يَفْنى مَدَدُهُ .
فَلَسْنَا نَعْلَمُ كُنْهَ عَظَمَتِكَ ، إِلاَّ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ حَيٌّ قَيُّومٌ لاَ تَأْخُذُكَ سِنَةٌ وَ لاَ نَوْمٌ .
لَمْ يَنْتَهِ إِلَيْكَ نَظَرٌ ، وَ لَمْ يُدْرِكْكَ بَصَرٌ ، وَ لاَ يَقْدِرُ قُدْرَتَكَ مَلَكٌ وَ لاَ بَشَرٌ أَدْرَكْتَ الأَبْصَارَ ، وَ كَتَمْتَ الآجَالَ ، وَ أَحْصَيْتَ الأَعْمَالَ ، وَ أَخَذْتَ بِالنَّوَاصي وَ الأَقْدَامِ .
لَمْ تُعَنْ في قُدْرَتِكَ ، وَ لَمْ تُشَارَكْ في إِلهَيَّتِكَ ، وَ لاَ يَبْلُغُكَ بُعْدُ الْهِمَمِ ، وَ لاَ يَنَالُكَ غَوْصُ الْفِطَنِ ، وَ لاَ يَنْتَهي إِلَيْكَ نَظَرُ النَّاظِرينَ .
إِرْتَفَعَتْ عَنْ صِفَةِ الْمَخْلُوقينَ صِفَةُ قُدْرَتِكَ ، فَلاَ يَنْتَقِصُ مَا أَرَدْتَ أَنْ يَزْدَادَ ، وَ لاَ يَزْدَادُ مَا أَرَدْتَ أَنْ يَنْتَقِصَ .
وَ كَيْفَ تُدْرِكُكَ الصِّفَاتُ ، أَوْ تَحْويكَ الْجِهَاتُ ، وَ قَدْ حَارَتْ في مَلَكُوتِكَ مَذَاهِبُ التَّفْكيرِ ، وَ حَسِرَ عَنْ إِدْرَاكِكَ بَصَرُ الْبَصيرِ [.
وَ مَا الَّذي نَرى مِنْ خَلْقِكَ ، وَ نَعْجَبُ لَهُ مِنْ قُدْرَتِكَ ، وَ نَصِفُهُ مِنْ عَظيمِ سُلْطَانِكَ ، وَ مَا تَغَيَّبَ عَنَّا مِنْهُ ، وَ قَصُرَتْ أَبْصَارُنَا عَنْهُ ، وَ انْتَهَتْ عُقُولُنَا دُونَهُ ، وَ حَالَتْ سُتُورُ الْغُيُوبِ بَيْنَنَا وَ بَيْنَهُ ،
أَعْظَمُ .
فَمَنْ فَرَّغَ قَلْبَهُ ، وَ أَعْمَلَ فِكْرَهُ ، لِيَعْلَمَ كَيْفَ أَقَمْتَ عَرْشَكَ ، وَ كَيْفَ ذَرَأْتَ خَلْقَكَ ، وَ كَيْفَ عَلَّقْتَ فِي الْهَوَاءِ سَموَاتِكَ ، وَ كَيْفَ مَدَدْتَ عَلى مَوْرِ الْمَاءِ أَرْضَكَ ، ضَلَّ هُنَالِكَ التَّدْبيرُ في تَصَاريفِ الصِّفَاتِ لَكَ .
فَمَنْ تَفَكَّرَ في ذَلِكَ رَجَعَ طَرْفُهُ حَسيراً ، وَ عَقْلُهُ مَبْهُوراً ، وَ سَمْعُهُ وَ الِهاً ، وَ فِكْرُهُ حَائِراً .
وَ كَيْفَ يُطْلَبُ عِلْمُ مَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ عِزِّ شَأْنِكَ ، إِذَا أَنْتَ فِي الْغُيُوبِ وَ لَمْ يَكُنْ فيهَا غَيْرُكَ ، وَ لَمْ يَكُنْ لَهَا سِوَاكَ ؟ .
لَمْ يَشْهَدْكَ أَحَدٌ حَيْثُ فَطَرْتَ الْخَلْقَ ، وَ لاَ نِدٌّ حَضَرَكَ حينَ ذَرَأْتَ النُّفُوسَ .
فَلَكَ الْحَمْدُ حَمْداً مُتَوَالِياً يَدُومُ وَ لاَ يَبيدُ ، غَيْرَ مَفْقُودٍ فِي الْمَلَكُوتِ ، وَ لاَ مُنْتَقَصٍ فِي الْعِرْفَانِ ، فِي اللَّيْلِ إِذَا أَدْبَرَ ، وَ فِي الصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ، بِالْغُدُوِّ وَ الآصَالِ ، وَ الْعَشِيِّ وَ الاِبْكَارِ .
كَلَّتِ الأَلْسُنُ عَنْ صِفَتِكَ ، وَ انْحَسَرَتِ الْعُقُولُ عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَتِكَ ، وَ تَوَاضَعَتِ الْمُلُوكُ لِهَيْبَتِكَ ،
وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِعِزَّتِكَ ، وَ انْقَادَ كُلُّ شَيْءٍ لِقُدْرَتِكَ ، وَ خَضَعَتِ الرِّقَابُ لِسُلْطَانِكَ .
وَ كَيْفَ لاَ يَعْظُمُ شَأْنُكَ عِنْدَ مَنْ عَرَفَكَ ، وَ هُوَ يَرى مِنْ عِظَمِ خَلْقِكَ مَا يَمْلأُ قَلْبَهُ ، وَ يُذْهِلُ عَقْلَهُ ، مِنْ رَعْدٍ يَقْرَعُ الْقُلُوبَ ، وَ بَرْقٍ يَخْطَفُ الْعُيُونَ ؟
لَمْ تَرَكَ الْعُيُونُ فَتُخْبِرَ عَنْكَ ، بَلْ كُنْتَ قَبْلَ الْوَاصِفينَ مِنْ خَلْقِكَ .
لَمْ تَخْلُقِ الْخَلْقَ لِوَحْشَةٍ ، وَ لاَ اسْتَعْمَلْتَهُمْ لِمَنْفَعَةٍ ، وَ لاَ يَسْبِقُكَ مَنْ طَلَبْتَ ، وَ لاَ يُفْلِتُكَ مَنْ أَخَذْتَ ،
وَ لاَ يَنْقُصُ سُلْطَانَكَ مَنْ عَصَاكَ ، وَ لاَ يَزيدُ في مُلْكِكَ مَنْ أَطَاعَكَ ، وَ لاَ يَرُدُّ أَمْرَكَ مَنْ سَخِطَ قَضَاءَكَ ،
وَ لاَ يَسْتَغْني عَنْكَ مَنْ تَوَلَّى عَنْ أَمْرِكَ .
كُلُّ سِرٍّ عِنْدَكَ عَلاَنِيَةٌ ، وَ كُلُّ غَيْبٍ عِنْدَكَ شَهَادَةٌ .
أَنْتَ الأَبَدُ لاَ أَمَدَ لَكَ ، وَ أَنْتَ الْمُنْتَهى لاَ مَحيصَ عَنْكَ ، وَ أَنْتَ الْمَوْعِدُ لاَ مَنْجَا مِنْكَ
بِيَدِكَ نَاصِيَةُ كُلِّ دَابَّةٍ ، وَ إِلَيْكَ مَصيرُ كُلِّ نَسَمَةٍ ، وَ بِإِذْنِكَ تَسْقُطُ كُلِّ وَرَقَةٍ
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ مَا أَعْظَمَ شَأْنَكَ .
سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ مَا نَرى مِنْ خَلْقِكَ ، وَ مَا أَصْغَرَ عَظيمَهُ في جَنْبِ قُدْرَتِكَ . وَ مَا أَهْوَلَ مَا نَرى مِنْ مَلَكُوتِكَ ، وَ مَا أَحْقَرَ ذَلِكَ فيمَا غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِكَ ، وَ مَا أَسْبَغَ نِعَمَكَ فِي الدُّنْيَا ، وَ مَا أَحْقَرَهَا [ 7 ] من : لم ترك إلى : عن أرضك ورد في خطب الشريف الرضي تحت الرقم 109 .
وَ مَا أَصْغَرَهَا في جَنْبِ نِعَمِ الآخِرَةِ .
مِنْ مَلاَئِكَةٍ أَنْشَأْتَهُمْ إِنْشَاءً ، فَ أَسْكَنْتَهُمْ سَموَاتِكَ ، وَ رَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ ، وَ أَكْرَمْتَهُمْ بِجُودِكَ ،
وَ ائْتَمَنْتَهُمْ عَلى وَحْيِكَ ، وَ جَنَّبْتَهُمُ الآفَاتِ ، وَ وَقَيْتَهُمُ الْبَلِيَّاتِ ، وَ طَهَّرْتَهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ ، فَلَيْسَ فيهِمْ فَتْرَةٌ ،
وَ لاَ عِنْدَهُمْ غَفْلَةٌ ، وَ لاَ بِهِمْ مَعْصِيَةٌ ، لاَ يَغْشَاهُمْ نَوْمُ الْعُيُونِ ، وَ لاَ سَهْوُ الْعُقُولِ ، وَ لاَ فَتْرَةُ الأَبْدَانِ.
هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ ، وَ أَخْوُفُهُمْ لَكَ ، وَ أَقْرَبُهُمْ مِنْكَ ، لَمْ يَسْكُنُوا الأَصْلاَبَ ، وَ لَمْ يُضَمَّنُوا الأَرْحَامَ ، وَ لَمْ يُخْلَقُوا مِنْ مَاءٍ مَهينٍ ، وَ لَمْ يَتَشَعَّبْهُمْ رَيْبُ الْمَنُونِ .
وَ لَوْ لاَ تَقْوِيَتُكَ لَمْ يَقْوَوْا ، وَ لَوْ لاَ تَثْبيتُكَ لَمْ يَثْبُتُوا ، وَ لَوْ لاَ رَهْبَتُكَ لَمْ يُطيعُوا ، وَ لَوْ لاَ أَنْتَ لَمْ يَكُونُوا.
وَ إِنَّهُمْ عَلى مَكَانِهِمْ مِنْكَ ، وَ مَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَكَ ، وَ اسْتِجْمَاعِ أَهْوَائِهِمْ فيكَ ، وَ كَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ لَكَ ،
وَ قِلَّةِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَمْرِكَ ، لَوْ عَايَنُوا كُنْهَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ ، وَ لَزَرَوْا عَلى أَنْفُسِهِمْ ،
وَ لَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ ، وَ لَمْ يُطيعُوكَ حَقَّ طَاعَتِكَ .
سُبْحَانَكَ خَالِقاً وَ مَعْبُوداً .
وَ سُبْحَانَكَ] بِحُسْنِ بَلاَئِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ مَحْمُوداً .
وَ سُبْحَانَكَ خَلَقْتَ دَاراً وَ جَعَلْتَ فيهَا مَأْدَبَةً : مَشْرَباً وَ مَطْعَماً ، وَ أَزْوَاجاً وَ خَدَماً ، وَ قُصُوراً وَ أَنْهَاراً ، وَ زُرُوعاً وَ ثِمَاراً .
ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا ، فَلاَ الدَّاعِيَ إِلَيْهَا أَجَابُوا ، وَ لاَ فيمَا رَغَّبْتَ فيهِ رَغِبُوا ، وَ لاَ إِلى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اشْتَاقُوا . أَقْبَلُوا عَلى جيفَةٍ قَدِ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا ، وَ اصْطَلَحُوا عَلى حُبِّهَا ،
وَ أَعْمَتْ أَبْصَارَ صَالِحي زَمَانِهَا ، وَ في قُلُوبِ فُقَهَائِهِمْ مِنْ عِشْقِهَا ، وَ مَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشى
بَصَرَهُ ، وَ أَمْرَضَ قَلْبَهُ ، وَ أَمَاتَ لُبَّهُ ، فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ غَيْرِ صَحيحَةٍ ، وَ يَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَيْرِ سَميعَةٍ .
قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ ، وَ أَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَهُ ، وَ وَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ ، فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا وَ لِمَنْ في يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا ، حَيْثُمَا زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا ، وَ حَيْثُمَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا .
لاَ يَنْزَجِرُ مِنَ اللَّهِ بِزَاجِرٍ ، وَ لاَ يَتَّعِظَ مِنْهُ بِوَاعِظٍ ، وَ هُوَ يَرَى الْمَأْخُوذينَ عَلَى الْغِرَّةِ ، حَيْثُ فَارَقُوا الدُّورَ ، وَ صَارُوا إِلَى الْقُبُورِ ، وَ حُشِرُوا إِلى دَارٍ دَانَتْ لَهُمْ فيهَا دَوَاهِي الأُمُورِ ، فَ لاَ إِقَالَةَ لَهُمْ وَ لاَ رَجْعَةَ ، فَعَلِمَ كُلُّ عَبْدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ مَغْرُوراً مَخْدُوعاً .
فَسُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ بِهِمْ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ ، وَ جَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ ، وَ قَدِمُوا مِنَ الآخِرَةِ عَلى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ .
فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ ، اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ خَلَّتَانِ
سَكْرَةُ الْمَوْتِ ، وَ حَسْرَةُ الْفَوْتِ .
فَاغْبَرَّتْ لَهَا وُجُوهُهُمْ ، وَ فَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ ، وَ تَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ ، وَ عَرِقَتْ لَهَا جِبَاهُهُمْ ،
وَ حَرَّكُوا لِمَخْرَجِ أَرْوَاحِهِمْ أَيْدِيَهُمْ
ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فيهِمْ وُلُوجاً ، فَحيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَ بَيْنَ مَنْطِقِهِ ، وَ إِنَّه لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ ،
وَ يَسْمَعُ بِأُذُنِهِ ، عَلى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ ، وَ بَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ ، يُفَكِّرُ : فيمَ أَفْنى عُمْرَهُ ، وَ فيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ ، وَ يَتَذَكَّرُ أَمْوَالاً جَمَعَهَا ، وَ حُقُوقاً مَنَعَهَا ، وَ قَدْ أَغْمَضَ في مَطَالِبِهَا ، وَ أَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَ مُشْتَبَهَاتِهَا ،
قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا ، وَ أَشْرَفَ عَلى فِرَاقِهَا ، تَبْقى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فيهَا ، وَ يَتَمَتَّعُونَ بِهَا ،
فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ ، وَ الْعِبْءُ عَلى ظَهْرِهِ ، وَ حِسَابُهَا عَلَيْهِ.
وَ الْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا ، فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ ،
وَ يَزْهَدُ فيمَا كَانَ يَرْغَبُ فيهِ أَيَّامَ عُمُرِهِ ، وَ يَتَمَنَّى أَنَّ الَّذي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا ، وَ يَحْسُدُهُ عَلَيْهَا ، قَدْ حَازَهَا دُونَهُ .
فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ بِالْمَرْءِ يَزيدُهُ وَ يُبَالِغُ في جَسَدهِ ، حَتَّى خَالَطَ لِسَانَهُ وَ سَمْعَهُ ، فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لاَ يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ ، وَ لاَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ ، يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ في وُجُوهِهِمْ ، يَرى حَرَكَاتٍ أَلْسِنَتِهِمْ ،
وَ لاَ يَسْمَعُ] رَجْعَ كَلاَمِهِمْ .
ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ بِهِ الْتِيَاطاً ، فَقَبَضَ بَصَرَهُ كَمَا قَبَضَ سَمْعَهُ ، فَذَهَبَتْ مِنَ الدُّنْيَا مَعْرِفَتُهُ ،
وَ هَمَلَتْ عِنْدَ ذَلِكَ حُجَّتُهُ .
وَ مَا زَالَ الْمَوْتُ يَزيدُهُ حَتَّى خَالَطَ عَقْلَهُ ، فَصَارَ لاَ يَعْقِلُ بِعَقْلِهِ ، وَ لاَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ ، وَ لاَ يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ ، [ وَ لاَ يُبْصِرُ بِعَيْنِهِ ] .
فَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى بَلَغَتِ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ .
ثُمَّ زَادَهُ الْمَوْتُ حَتَّى] خَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ ، فَصَارَ جيفَةً عِنْدَ أَهْلِهِ ، قَدْ أُوحِشُوا مِنْ جَانِبِهِ ، وَ تَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ ، لاَ يُسْعِدُ بَاكِياً ، وَ لاَ يُجيبُ دَاعِياً .
ثُمَّ أَخَذُوا في غَسْلِهِ فَنَزَعُوا عَنْهُ ثِيَابَ أَهْلِ الدُّنْيَا .
ثُمَّ كَفَّنُوهُ فَلَمْ يُوَزِّرُوهُ ، ثُمّ أَلْبَسُوُهُ قَميصاً لَمْ يَكْفَؤُوا عَلَيْهِ أَسْفَلَهُ وَ لَمْ يُزِرُّوهُ .
ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلى مَخَطٍّ فِي الأَرْضِ فَأَدْخَلُوهُ ، ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ وَ أَسْلَمُوهُ فيهِ إِلى عَمَلِهِ ،
وَ انْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ ، وَ خَلُّوهُ بِمُفْظِعَاتِ الأُمُورِ ، وَ تَحْتَ مَسْأَلَةِ مُنْكَرَ وَ نَكيرٍ ، مَعَ ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَ ضيقِهِ وَ وَحْشَتِهِ . فَذَلِكَ مَثْوَاهُ حَتَّى يَبْلى جَسَدُهُ ، وَ يَصيرَ رُفَاتاً رَميماً.
حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ، وَ الأَمْرُ مَقَاديرَهُ ، وَ أُلْحِقَ آخِرُ الْخَلْقِ بِأَوَّلِهِ ، وَ جَاءَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا يُريدُهُ مِنْ تَجْدِيدِ خَلْقِهِ ، أَمَادَ السَّمَاءَ فَفَتَقَهَا ، وَ فَطَرَهَا ، وَ أَفْزَعَ مَنْ فيهَا ، وَ بَقِيَ مَلاَئِكَتُهَا قَائِمَةً عَلى أَرْجَائِهَا .
ثُمَّ وَصَلَ الأَمْرُ إِلَى الأَرَضينَ ، وَ الْخَلْقُ رُفَاتٌ لاَ يَشْعُرُونَ ، وَ أَرَجَّ الأَرْضَ وَ أَرْجَفَهَا بِهِمْ ،
وَ زَلْزَلَهَا عَلَيْهِمْ ، وَ قَلَعَ جِبَالَهَا مِنْ أُصُولِهَا وَ نَسَفَهَا وَ سَيَّرَهَا ، وَ دَكَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَيْبَةِ جَلاَلَتِهِ ، وَ مَخُوفِ سَطْوَتِهِ ، ثُمَّ كَانَتْ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ، قَدْ دُكَّتْ هِيَ وَ أَرْضُهَا دَكَّةً وَاحِدَةً.
وَ أَخْرَجَ مَنْ فيهَا فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إِخْلاَقِهِمْ ، وَ جَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفْريقِهِمْ.
ثُمَّ مَيَّزَهُمْ لِمَا يُريدُ مِنْ تَوْقيفِهِمْ ، وَ مَسْأَلَتِهِمْ عَنْ خَفَايَا الأَعْمَالِ ، وَ خَبَايَا الأَفْعَالِ .
فَمَنْ أَحْسَنَ مِنْهُمْ يُجْزيهِ بِأَعْمَالِهِ وَ إِحْسَانِهِ ، وَ مَنْ أَسَاءَ مِنْهُمْ يُجْزيهِ بِإِسَاءَتِهِ .
ثُمَّ مَيَّزَهُمْ وَ جَعَلَهُمْ فَريقَيْنِ :
أَنْعَمَ عَلى هؤُلاَءِ وَ انْتَقَمَ مِنْ هؤُلاَءِ
فَأَمَّا أَهْلُ الطَّاعَةِ فَأَثَابَهُمْ بِجِوَارِهِ ، وَ خَلَّدَهُمْ في دَارٍهِ ، فَعَيْشٌ رَغَدٌ ، وَ مُجَاوَرَةُ رَبٍّ كَريمٍ ،
وَ مُرَافَقَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ، حَيْثُ لاَ يَظْعَنُ النُزَّالُ ، وَ لاَ تَتَغَيَّرُ بِهِمُ الْحَالُ ، وَ لاَ تَنُوبُهُمُ الأَفْزَاعُ ، وَ لاَ تَنَالُهُمُ الأَسْقَامُ ، وَ لاَ تَعْرِضُ لَهُمُ الأَخْطَارُ ، وَ لاَ تُشْخِصُهُمُ الأَسْفَارُ .
وَ أَمَّا أَهْلُ الْمَعْصِيَةِ فَأَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَارٍ ، وَ خَلَّدَهُمْ فِي النَّارِ ، وَ غَلَّ الأَيْديَ إِلَى الأَعْنَاقِ ، وَ قَرَنَ النَّوَاصِيَ بِالأَقْدَامِ ، وَ أَلْبَسَهُمْ سَرَابيلَ الْقَطِرَانِ ، وَ مُقَطَّعَاتِ النّيرَانِ . في عَذَابٍ قَدِ اشْتَدَّ حَرُّهُ ، وَ بَابٍ قَدْ أُطْبِقَ عَلى أَهْلِهِ ، في نَارٍ لَهَا كَلَبٌ وَ لَجَبٌ ، وَ لَهَبٌ سَاطِعٌ ، وَ قَصيفٌ هَائِلٌ ، لاَ يَظْعَنُ مُقيمُهَا ، وَ لاَ يُفَادى أَسيرُهَا ، وَ لاَ تُفْصَمُ كُبُولُهَا .
لاَ مُدَّةَ لِلدَّارِ فَتَفْنى ، وَ لاَ أَجَلَ لِلْقَوْمِ فَيُقْضى .
فَهَلْ سَمِعْتُمْ بِمِثْلِ هذَا الثَّوَابِ وَ العِقَابِ ؟ .
مَا لِلنَّاسِ مِنْ هَوْلٍ نَامَ طَالِبُهُ ، وَ أَدْرَكَهُ هَارِبُهُ ، أَوْ تَشَاغَلَ عَنْهُ بِغَيْرِهِ .
تَشَاغَلَ أَهْلُ الدُّنْيَا بِدُنْيَاهُمْ ، وَ تَشَاغَلَ أَهْلُ الآخِرَةِ بِأُخْرَاهُمْ .
فَأَمَّا أَهْلُ الدُّنْيَا فَأَتْعَبُوا أَبْدَانَهُمْ ، وَ دَنَّسُوا أَعْرَاضَهُمْ ، وَ خَرَجُوا عَنْ دِيَارِهِمْ في طَاعَةِ مَخْلُوقٍ مِثْلَهِمْ ، تَعَبَّدُوا لَهُ ، وَ طَلَبُوا مَا في يَدِهِ ، وَ أَذْعَنُوا لَهُ ، وَ وَطِئُوا عَقِبَهُ ، فَصَارَ أَحَدُهُمْ يَرْجُو عَبْداً مِثْلَهُ ، لاَ يَرْجُو اللَّهَ وَحْدَهُ .
يَدَّعي ، بِزَعْمِهِ ، أَنَّهُ يَرْجُو اللَّهَ .
كَذَبَ وَ الْعَظيمِ .
مَا بَالُهُ لاَ يَتَبَيَّنُ رَجَاؤُهُ في عَمَلِهِ ؟ .
فَكُلُّ مَنْ رَجَا عُرِفَ رَجَاؤُهُ في عَمَلِهِ ، وَ كُلُّ رَجَاءٍ إِلاَّ رَجَاءَ اللَّهِ تَعَالى فَإِنَّهُ مَدْخُولٌ ، وَ كُلُّ خَوْفٍ
مُحَقَّقٌ إِلاَّ خَوْفَ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَعْلُولٌ .
يَرْجُو اللَّهَ فِي الْكَبيرِ ، وَ يَرْجُو الْعِبَادَ فِي الصَّغيرِ ، وَ يُعْطِي الْعَبْدَ مَا لاَ يُعْطِي الرَّبَّ ، وَ يَخَافُ الْعَبيدَ فِي الرَّبِّ ، وَ لاَ يَخَافُ فِي الْعَبيدِ الرَّبَّ.
فَمَا بَالُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُقَصَّرُ بِهِ عَمَّا يُصْنَعُ بِعِبَادِهِ ؟ أَتَخَافُ أَنْ تَكُونَ في رَجَائِكَ لَهُ كَاذِباً ، أَوْ تَكُونَ لاَ تَرَاهُ لِلرَّجَاءِ مَوْضِعاً ؟ .
وَ كَذَلِكَ إِنْ هُوَ خَافَ عَبْداً مِنْ عَبيدِهِ ، أَعْطَاهُ مِنْ خَوْفِهِ مَا لاَ يُعْطي رَبَّهُ ، فَجَعَلَ خَوْفَهُ مِنَ الْعِبَادِ نَقْداً ، وَ خَوْفَهُ مِنْ خَالِقِهِمْ ضِمَاراً وَ وَعْداً .
وَ كَذَلِكَ مَنْ عَظُمَتِ الدُّنْيَا في عَيْنِهِ ، وَ كَبُرَ مَوْقِعُهَا في قَلْبِهِ ، آثَرَهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالى ، فَانْقَطَعَ إِلَيْهَا وَ صَارَ عَبْداً لَهَا .
وَ أَمَّا صَاحِبُ الطَّاعَةِ فَاتَّبَعَ أَثَرَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ سَلَكَ مَنَاهِجَهُ.
وَ لَقَدْ كَانَ في رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ كَافٍ لَكَ فِي الأُسْوَةِ [ الْ ] حَسَنَةِ ، وَ دَليلٌ لَكَ عَلى ذَمِّ الدُّنْيَا وَ عَيْبِهَا ، وَ كَثْرَةِ مَخَازِيهَا وَ مَسَاويهَا ، إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرَافُهَا ، وَ وُطِئَتْ لِغَيْرِهِ أَكْنَافُهَا ، وَ فُطِمَ عَنْ رَضَاعِهَا ، وَ زُوِيَ عَنْ زَخَارِفِهَا .
وَ [ قَدْ ] عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ زَوَاهَا عَنْهُ اخْتِيَاراً ، وَ بَسَطَهَا لِغَيْرِهِ احْتِقَاراً] .
وَ إِنْ شِئْتَ ثَنَّيْتُ بِمُوسى كَليمِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ إِذْ يَقُولُ : رَبِّ إِنّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقيرٌ.
وَ اللَّهِ ، مَا سَأَلَهُ إِلاَّ خُبْزاً يَأْكُلُهُ ، لِأَنَّهُ كَانَ يَأكُلُ بَقْلَةَ الأَرْضِ .
وَ لَقَدْ كَانَتْ خُضْرَةُ الْبَقْلِ تُرى مِنْ شَفيفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ ، لِهُزَالِهِ وَ تَشَذُّبِ لَحْمِهِ .
وَ إِنْ شِئْتَ ثَلَّثْتُ بِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ صَاحِبِ الْمَزَاميرِ ، وَ قَارِئِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَلَقَدْ كَانَ يَعْمَلُ سَفَائِفَ الْخُوصِ بِيَدِهِ ، وَ يَقُولُ لِجُلَسَائِهِ : أَيُّكُمْ يَكْفيني بَيْعَهَا ، وَ يَأْكُلُ قُرْصَ الشَّعيرِ مِنْ ثَمَنِهَا .
وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتُ في عيسَى بْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمِ ، فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ ، وَ يَلْبَسُ الْخَشِنَ ، وَ يَأْكُلُ الْجَشِبَ .
وَ كَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ ، وَ سِرَاجُهُ بِاللَّيْلِ الْقَمَرَ ، وَ ظِلاَلُهُ فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقَ الأرْضِ وَ مَغَارِبَهَا ،
وَ فَاكِهَتُهُ وَ رَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ .
وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ ، وَ لاَ وَلَدٌ يَحْزُنُهُ ، وَ لاَ مَالٌ يَلْفِتُهُ ، وَ لاَ طَمَعٌ يُذِلُّهُ ، دَابَّتُهُ رِجْلاَهُ ،
وَ خَادِمُهُ يَدَاهُ .
فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الأَطْيَبِ الأَطْهَرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ [ وَ ] اسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ ، حينَ حَقَّرَ الدُّنْيَا وَ صَغَّرَهَا ، وَ أَهْوَنَ بِهَا وَ هَوَّنَهَا ، فَإِنَّ فيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى ، وَ عَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى .
وَ أَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى] الْمُتَأَسّي بِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ، وَ الْمُقْتَصُّ لأَثَرِهِ ،
قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً ، وَ لَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً ، أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً ، وَ أَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً .
عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا بِمَفَاتيحِهَا وَ خَزَائِنِهَا ، لاَ يَنْقُصُهُ ذَلِكَ مِنْ حَظِّهِ مِنَ الآخِرَةِ ، فَأَبى أَنْ يَقْبَلَهَا ، وَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ ، وَ حَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ ، وَ صَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ .
وَ لَوْ لَمْ يَكُنْ فينَا إِلاَّ حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللَّهُ ، وَ تَعْظيمُنَا مَا صَغَّرَ اللَّهُ ، لَكَفى بِهِ شِقَاقاً للَّهِ ،
وَ مُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالى .
فَلَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَأْكُلُ عَلَى الأَرْضِ ، وَ يَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ ،
وَ يَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ ، وَ يَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ ، وَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ وَ يُرْدِفُ خَلْفَهُ .
وَ يَكُونُ السِّتْرَ عَلى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فيهِ التَّصَاويرُ ، فَيَقُولُ : يَا فُلاَنَةُ ، لإِحْدى أَزْوَاجِهِ ،
غَيِّبيهِ عَنّي ، فَإِنّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا وَ زَخَارِفَهَا.
فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ ، وَ أَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ ، وَ أَحَبَّ أَنْ تَغيبَ زينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ ، لِكَيْلاَ يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً ، وَ لاَ يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً ، أَوْ يَرْجُوَ فيهَا مُقَاماً ، فَأخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ ، وَ أَشْخَصَهَا عَنِ الْقَلْبِ ، وَ غَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ .
وَ كَذَلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئاً أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ ، وَ أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ .
وَ لَقَدْ كَانَ في رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ مَا يَدُلُّكَ عَلى مَسَاوِئِ الدُّنْيَا وَ عُيُوبِهَا ،
إِذْ جَاعَ فيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ ، وَ زُوِيَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظيمِ زُلْفَتِهِ .
فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ ، أَكْرَمَ اللَّهُ تَعَالى مُحَمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ بِذَلِكَ أَمْ أَهَانَهُ ؟ .
فَإِنْ قَالَ : أَهَانَهُ ، فَقَدْ كَذَبَ وَ اللَّهِ الْعَظيمِ ، وَ أَتى بِالإِفْكِ الْعَظيمِ .
وَ إِنْ قَالَ : أَكْرَمَهُ ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيَا لَهُ ، وَ زَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ وَ أَعَزِّهِمْ عَلَيْهِ.
فَتَاَسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ ، وَ اقْتَصَّ أَثَرَهُ ، وَ وَلَجَ مَوْلِجَهُ ، وَ إِلاَّ فَلاَ يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ.
فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ مُحَمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ عَلَماً لِلسَّاعَةِ ، وَ مُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ ، وَ مُنْذِراً بِالْعُقُوبَةِ .
] بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً ، وَ نَصَحَ لأُمَّتِهِ مُنْذِراً ، وَ دَعَا إِلَى الْجَنَّةِ مُبَشِّراً ، وَ خَوَّفَ مِنَ النَّارِ مُحَذِّراً .
خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا خَميصاً ، وَ وَرَدَ الآخِرَةَ سَليماً .
لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلى حَجَرٍ ، وَ لاَ لَبِنَةَ عَلى لَبِنَةٍ ، حَتَّى مَضى لِسَبيلِهِ ، وَ أَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ .
فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللَّهِ عِنْدَنَا حينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفَاً نَتَّبِعُهُ ، وَ قَائِداً نَطَأُ عَقِبَهُ .
وَ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذي أَكْرَمَنَا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ، أَرْسَلَهُ رَحْمَةً وَ حُجَّةً ، فَجَلَّتْ وَ وَصَلَتْ إِلَيْنَا نِعَمُهُ بِنِعْمَةٍ أَسْبَغَهَا عَلَيْنَا ، فَبَلَّغَ رِسَالاَتِ رَبِّهِ ، وَ نَاصَحَ لأُمَّتِهِ مُنْذِراً وَ دَاعِياً .
فَمَا أَعْظَمَ النِّعْمَةَ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ .
فَبِهِ هَدَانَا اللَّهُ مِنَ الضَّلاَلَةِ ، وَ اسْتَنْقَذَنَا بِهِ مِنْ جَمَرَاتِ النَّارِ ، وَ بَصَّرَنَا بِهِ مِنَ الْعَمى ، وَ عَلَّمَنَا بِهِ بَعْدَ الْجَهَالَةِ ، وَ أَعَزَّنَا بِهِ فِي خَلَّتِنَا ، وَ كَثَّرَنَا بِهِ في قِلَّتِنَا ، وَ رَفَعَ بِهِ خَسيسَنَا ، وَ نَحْنُ بَعْدُ نَرْجُو شَفَاعَتَهُ .
وَ اللَّهُ أَوْجَبَ حَقَّهُ عَلَيْنَا فَأَمَرَنَا بِالصَّلاَةِ عَلَيْهِ ، فَصَلُّوا عَلَيْهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ .
فلمّا فرغ عليه السلام من الصلاة قام إليه رجل فقال :
يا أمير المؤمنين قد عظّمت اللّه فلم تأل في تعظيمه ، و حمدته فلم تأل في تحميده ، و حثثت الأمة و زهّدت و رغّبت .
فقال عليه السلام : .
نَحْنُ ، أَهْلُ الْبَيْتِ ، شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ ، وَ مَحَطُّ الرِّسَالَةِ ، وَ مُخْتَلَفُ الْمَلاَئِكَةِ ، وَ مَعَادِنُ الْعِلْمِ ،
وَ مَوَاطِنُ الْحِلْمِ ، وَ مَصَابيحُ الظُّلَمِ ، وَ يَنَابيعُ الْحِكَمِ .
نَحْنُ أَصْحَابُ رَايَاتِ بَدْرٍ ، لاَ يَنْصُرُنَا إِلاَّ مُؤْمِنٌ ، وَ لاَ يَخْذُلُنَا إِلاَّ مُنَافِقٌ .
مَنْ نَصَرَنَا نَصَرَهُ اللَّهُ ، وَ مَنْ خَذَلَنَا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ .
وَ قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ أَقْوَاماً بَايَعُوني وَ في قُلُوبِهِمُ الْغَدْرُ .
أَلاَ وَ إِنّي لَسْتُ أُقَاتِلُ إِلاَّ مَارِقاً يَمْرُقُ مِنْ دينِهِ ، وَ نَاكِثاً بِبَيْعَتِهِ يُريدُ الْمُلْكَ لِنَفْسِهِ ، يَبيعُ دينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا قَليلٍ ، وَ إِنَّمَا يُقَاتِلُ مَعَنَا مَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَ سَعى لَهَا سَعْيَهَا .
أَلاَ إِنَّ نَاصِرَنَا وَ مُحِبَّنَا يَنْتَظِرُ في كُلِّ صَبَاحٍ وَ مَسَاءٍ الرَّحْمَةَ مِنَ اللَّهِ ، وَ إِنَّ خَاذِلَنَا وَ مُبْغِضَنَا يَنْتَظِرُ السَّطْوَةَ [ مِنَ اللَّهِ كُلَّ صَبَاحٍ وَ مَسَاءٍ .
فَلْيُبَشَّرْ وَلِيُّنَا بِالأَرْبَاحِ الْوَافِرَةِ ، وَ الْجَنَّةِ الْعَالِيَةِ ، وَ لْيَنْتَظِرْ عَدُوُّنَا النَّقْمَةَ فِي الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ [/size] .