بسم الله الرحمن الرحيم
مقابلة يقال بأنها جرت
بين الإمام موسى الصدر وبين السيد مرعي الحمدو
في قرية الهرمل في لبنان
قال السيد مرعي الحمدو :
كنت في بلدة زحله وقد حضر الإمام موسى الصدر إلى بلدة الهرمل , وكنت ضيفا عند رجل شيعي , فدعاني للحضور والاستماع لمحاضرة دينية من قبل الإمام موسى الصدر , وقد قبلت الدعوة وتم الاجتماع في مكان ضمّ حوالي مائتي رجل , ويتصدر الاجتماع الإمام موسى الصدر, وكان يقرأ في كتاب حتى جاء ذكر عبد الرحمن بن ملجم وقد لاحظ المضيف الإنقباض علي , فقام وتوجه إلى الإمام موسى الصدر وقال له : يا سيدي يوجد في جمعنا رجل من أخواننا العلويين يعارض في شتم عبد الرحمن بن ملجم ويقول إن عبد الرحمن بن ملجم لم يضرب الإمام علي , فهنا التفت الإمام وقال : والنعم أين هو هذا السيد ؟ ثم دعاني لأقوم وأقعد بجانبه .
قلت لمضيفي : يا أخي إن الغريب في بلدكم محتقر , فأراد المضيف أن يتكلم , فأوحى الإمام بالسكوت وقال : أهلا وسهلا يا بني , فأجبت أهلا بكم يا سيدي , وأجابني : إن الغريب عندنا غير محتقر لا بل مكرم , فقلت : لا , فقال : ما السبب , قلت : اسأل الرجل الذي قال بأنني لم أرضَ بشتم عبد الرحمن بن ملجم عن السبب لقوله هذا ؟ بل إنه لم يسمع في شيء ولم تجرِ بيني وبينه أية مناقشة , فكيف يقول لكم عن لساني هكذا علما إنها حادثة تاريخية من تاريخ الإسلام , فما هذا الاستهزاء والاحتقار ؟.
فردَّ عليّ الإمام قائلا : يا أخي إن القائل مراده أن يعرفني أولا به وأنه يوجد في هذه الجلسة رجل علويّ , حيث أنه يعرفني أكنّ للإخوان العلويين احتراماً , وثانيا : حيث أنكم تجعلون الإمام عليّ إله , والإله لا يقتل ولا يضرب .
فقلت له : يا سيدي كنت أظنّ أن كلام الأخ المضيف استهزاء وجهل مع احترامي لسيادتكم , ولكن الآن بإمكاني أن أتوجه إلى سيادتكم وأسألكم الوجدان والضمير : هل جالست أحد العلويين وقال لك نحن نعبد علي بن أبي طالب ونجعله ربا ؟ قال : لا , قلت له : كيف إذن توجه لنا هذه التهمة التي لا يوجد في الشعب العلوي من يقرّها مع أن عليّ هو ابن أبي طالب وأمه فاطمة بنت أسد وزوجته فاطمة الزهراء , وأولاده الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وغيرهم من بنات وبنين , وقال الله تعالى في كتابه العزيز : (( قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد )) فكيف نجعله إلهاً ؟؟؟
قال : يا بني هذه الدعاية فيكم في جميع الأقطار .
فقلت له : هل كل دعاية صادقه ؟ مع أننا نحن نفضل عليّ على جميع الخلائق بعد محمّد (ص) ولهذا وجّهوا لنا هذه التهمة بأننا نعبده ونجعله رباً , أما أنتم فالدعاية فيكم أنكم تعبدون الفخارة مع أننا نعلم أنكم تأتون بهذا التراب من أرض كربلاء حيث هناك دم الحسين الشهيد بهذا التراب وتعملون منه أقراصا وتضعونها تحت جباهكم تبركاً واحتراما للحسين , فقال الناس إنكم تعبدون الفخارة فهل هذه الدعاية صحيحة ؟ ونحن الفرقة العلوية نفضل عليّ ونعظمه على أهل السموات والأرض بعد محمّد (ص) وأنا أقسم بالله بأننا لا نعبد بشراً ولا نعبد إلا الله خالق السموات والأرض .
فقال الإمام : يا بنيّ بيننا وبينكم الله ونحن نريد ذلك .
فقام رجل من الحضور: وأقسم بالله العظيم أنّه سأل رجلا علوياً عن عليّ فقال له : إننا نعبده وهو ربّ السموات والأرض .
فقمت وقلت له : صدق هذا الرجل , إن عليّ ربّ , وأنت ربّ , وكلّ منا ربّ أسرة , لا بل أقول إن عليّ مثل ألف ربّ مثلي ومثلك , وأضيف إلى قولي وأقول : إنّ عليّ ربي وربك وربّ كل الناس وكلّ من على وجه الأرض , لأنّ الأرباب عديدون ولولم تكن الأرباب عديده ما سمّي الله ربّ الأرباب .
فالتفت الإمام نحوي وقال ( متسائلا ) بأنني إذا كنت قد قلت بأن الأرباب عديدون ؟
قلت : صدقت فكلّ صاحب بيت هو ربّ ذلك البيت , وإن عليّ أكبر من ألف ربّ من هذه الأرباب .
قال : صدقت ولكن أنت تقول : أن عليّ ربي وربك وربّ كلّ الناس , فإذا لم تجعلوه رباً فماذا يكون تعريف هذا الكلام الذي أسمعه لأول مرة ؟
قلت له : يا سيّدي تعريف الحقّ واضح . فقال : هات ما عندك من الحقّ الواضح .
قلت له : عليّ ربّ الشجاعة كلّها , فهل كان على وجه الأرض أشجع منه ؟ قال : لا , قلت لهذا سمّي عليّ ربّ الشجاعه , قال : حقاً .
قلت له عليّ ربّ الفصاحة والبلاغة كلّها , أكان على وجه الأرض أفصح وأبلغ منه ؟ قال : لا , قلت له : لهذا سمّي ربّ الفصاحة والبلاغة , قال : صدقت , قلت له : علي ربّ القوة , فهل كان على وجه الأرض أقوى منه قلبا وساعدا وهمةً ؟ قال : لا , قلت له : لذلك سمّي عليّ ربّ القوّة . قال : صدقت .
قلت له : عليّ ربّ الورع والزهد , فهل كان على وجه الأرض أزهد منه حيث قال كلمة ما قالها قبله ولا بعده أحد حيث قال : ( طلّقتك يا دنيا ثلاثا بثلاث لا رجعة بعدها ) لذلك سمّي ربّ الزهد. قال : صدقت .
قلت : عليّ ربّ الإيمان , فهل آمن بالله ورسوله أحد قبله حيث قال له رسول الله يوم برز إلى محاربة عمرو بن ودّ العامريّ : برز الإيمان كلّه للكفر كلّه , لذلك سمّي عليّ ربّ الإيمان . فهذا تعريف كلامي وهذا هو الحقّ الواضح .
قال الإمام لقد أحسنت وبررت .
فنهض رجل من الحضور وقال : يا سيدي الإمام والله إني سمعت رجلا علويا في قرية العقربية قال : لا إله إلا عليّ
فنظرت إليه وقلت له : يا أخي والله وأنا أقول كما قال ذلك الرجل لا إله إلا عليّ الذي علا فوق السموات والأرض , وقلت له سألتك بالله ياأخي : هل قال لا إله إلا عليّ بن أبي طالب ؟ قال : لا والله فقد قال عليّ ولا أعلم ما يقصد بقوله .
فقلت للإمام : حيث إنّ الدعاية فينا هكذا فكيفما تكلّم الرجل منّا تتوجّه حوله الشبهات وإنني أقسم بالله العظيم إننا لا نعبد إلا العليّ الأعلى الذي علا على السموات والأرضين , الذي لا يأكل ولا يشرب واسمه العليّ العظيم والعليّ القدير في جميع الكتب والصحف وهذه حقيقة العلويين جميعا .
فقال الإمام : الآن تقاربنا ولم يبقَ بيننا سوء تفاهم , لذلك مرادي أسألك بعض الأسئله فهل لديكم مانع؟
فقلت له : تفضل يا سيّدي , قال لي : إذن من أول إمام لك ؟ قلت : محمّد (ص) فالتفت إلى شيخ عن يمينه وشيخ عن يساره وتبسم ضاحكاً وقال يا بنيّ سيدنا محمّد (ص) ما هو إمام بل نبيّ .
فقلت له : يا سيدي إنني قاصر وضعيف وليس لي علم أكثر من ذلك فالرجاء أن ترشدني من كان إماما لسيدنا محمّد وبمن كان يأتمّ ؟ فقال : أستغفر الله أن أجعل لسيّدنا محمّد إماماً .
فقلت له : إذن أنا غير مخطئ وأول إمام لنا كان سيّدنا محمّد (ص) وإنني لا أنكر نبوته . فالتفت الحضور ونظروا اليّ بتعجب من جوابي له .
فقال لي : والله إن بيدك الحقّ وأنا أيضا محقّ أقصد بسؤالي بعد محمّد (ص) ؟ فقلت له : سيّدي هل قلت بعد سيّدنا محمّد ؟ قال : لا والله إنك صدقت ولكن أقول الآن بعد سيّدنا محمّد (ص) من إمامك ؟
فقلت له : إمامي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب . قال : أنعمت , وبعده من أمامك ؟ فقلت : الحسن وبعده الحسين وبعده علي زين العابدين , قال لي : يكون ولده الإمام محمّد بن الحنفية موجودا وهو ابن أمير المؤمنين عليّ . فقلت له : هؤلاء الحنفيون ونحن لا نجعله إماما , بل إمامي عليّ زين العابدين بن الحسين فقط , فقال من هؤلاء الحنفيون ؟ فقلت له : فرقة من الشيعه تقول بإمامة محمّد ابن الحنفية , وقال له عليّ بن الحسين : ما هذا الخلاف يا عمّاه ؟ هل الإمامه برأي الشيعه أم بأمر الله ؟ فقال له عمّه محمّد : هل عندك بيّنه وشاهد بذلك ؟ فقال له : نعم عندي بيّنه وشاهد , الحجر الأسود في بيت الله الحرام نصير إليه جميعا والذي يشهد له الحجر الأسود يكون هو الإمام , فقال الشيعة جميعا : قبلنا ذلك الشاهد الذي لا تردّ شهادته , وساروا جميعا إلى بيت الله الحرام , ولمّا دخلوا قال له عليّ ( ع) : أتدعي يا عم أم أدعي أنا أولا, فقال له محمّد بل أنا أولا . فقال له عليّ : قم وادع , فنهض محمد قائما وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا رسوله وعبده , سألتك أيها الحجر بمن أنشأك وكوّنك أن تنطق الصواب بما يلهمك الله , من إمام هذه الأمة بعد سيّدي وأخي الحسين . فلم ينطق الحجر بحرف ولا جواب فقال محمّد : تفضل يا ابن أخي , فنهض مولانا عليّ زين العابدين فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمّدا عبده ورسوله , سألتك أيها الحجر الأسود بمن أنشأك وكوّنك وصوّرك بأن تنطق الحق والصواب بما يلهمك ربّك من الجواب , من إمام الأمة بعد الحسين (ع) , ومن هو حجة الله على خلقه ؟ فنطق الحجر الأسود بقدرة الله وبلسان عربي فصيح وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإن محمدا عبده ورسوله وأشهد بأنك إمام هذه الأمة وإنك إمام الدين ويعسوب الموحدين فمن تولاك نجا ومن تخلف عنك هلك . فنهض محمّد بن الحنفيه قائما على قدميه وقال : أعطني يدك يا سيّدي فأخذ بيده وقال : أشهد أنك إمامي وسيّدي وإنك إمام هذه الأمّة العظيمة حقا وصدقا فمن تولاك نجا ومن تخلف عنك هلك . وما كان ذلك غباءاً من محمّد بن الحنفية ولكن لولا هذه الشهاده لما انضمت الشيعه إلى سيدنا عليّ زين العابدين فصاح جميع الجلساء وقالوا للإمام الصدر : هل هذه الرواية التي رواها العلوي صحيحه , فقال لهم : نعم هكذا صار , فقال الجميع : عاش العلويون , وهذا الشيء لم نسمعه إلا في هذه الساعه , ولماذا لم تعرفونا بذلك , ويعيش هذا الشاب العلويّ الذي سمعنا منه ذلك الحديث . ثم قال: ومن إمامك بعد عليّ زين العابدين ؟ فقلت : محمّد الباقر , قال : أحسنت ومن بعده ؟ قلت : جعفر الصادق ثم موسى الكاظم , فقال لم يكن اسماعيل ؟ فقلت له : هذا إمام الإسماعيلية وأنا لست منهم , نحن إمامنا موسى الكاظم فقال وبعد موسى الكاظم ؟ قلت : ولده عليّ الرضا , ثم محمد الجواد ثم علي الهادي ثم الحسن بن علي الهادي , فقال لي : الحسن أم جعفر بن الهادي , قلت : لا بل الحسن لأن جعفر كذّاب , فقال لي : ما السبب لما سمّي بالكذاب؟ قلت له : اسم جدّه جعفر الصادق , فسمّي جعفر الكذّاب حيث أن سيّدنا الهادي قال : إنّ الإمامة في أحد ولديّ هذين , فمن رأيتموه ركب مطيتي ولبس بردةً كبردتي وتعمم بعمامة كعمامتي ومشى أمام جنازتي كأنه الإمام فذلك كذّاب , والذي يمشي خلف جنازتي باكي العينين شامه الثياب بكلّ خشوع وخضوع فهذا هو الإمام من بعدي , ولمّا توفّي مولانا الهادي وشيّعت جنازته ركب ولده جعفر على مطيّة الهادي ولبس بردةً كبردته وتعمم بعمامة كعمامته ومشي أمام الجنازة , وكان ولده الحسن يمشي خلف الجنازة باكي العينين شامه الثياب في كلّ خشوع وخضوع , فقلدت مشيته كلّ الأمة الحاضرين وأيضا الخليفة العباسي ترجّل عن مطيته ومشى خلف الجنازة وجعفر لم يترجّل , فصاحت الشيعة بأجمعها : هذا هو الإمام وذلك كذّاب , لذلك سمّي جعفر الكذاب . فالتفت الجلساء إلى الإمام الصدر وقالوا له : هل هذا الحديث صحيح ؟ فقال لهم : حقا وصدقا , فقالوا جميعا : يحيى العلويون , فقال لي : وبعده من إمامك ؟ فقلت له : ولده محمّد بن الحسن الحجة (ع) , فقال هذا ما ظهر , فقلت له : نعم ظهر وهو الذي صلّى على الحسن وبقي خمس سنوات وغاب بالسرداب وسيظهر وهو القائم المهديّ صاحب الزمان وسيملئ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلما وجورا فهذا اعتقادي وديني , فقال الإمام الصدر : أحسنت وبررت , ثم التفت إلى الجلساء فقال لهم : ما كان ظننا بأخواننا العلويين هذا الظنّ وقد فرّق بيننا وبينهم سوء التفاهم , فبدأ الجميع بالقول : يحيى الشعب العلوي , والداعي أيضا .
وبعد مداولات بالكلام بين الجلوس , أومئ الإمام بالسكوت والتفت إلى الشيخين الذين على يمينه وشماله وجرى بينهم بعض الكلمات ثمّ التفت إلي وقال : يا ولدي إنّ الإخوان يريدون أن تشرح لهم عن الأئمة الذين ذكرتهم وكلّ إمام من كان المخالف له إذا أمكن ؟ فنهض المضيف وقال للإمام : يا سيّدي عذرا فأنا لا أسمح بأن تحرجوا ضيفي وتخجلوه , فاسأل أي رجل من الحضور فإن عجزوا فكلّف ضيفي بالإجابة .
فقال له الإمام : يا بني إننا لا نقصد أن نخجله ولا نعجزه بل أريد أن أسأله عن أشياء كنّا نجهلها عن أخواننا العلويين وذلك لإزالة سوء التفاهم بيننا .
فقلت له : أبو فؤاد ( أي مضيفي ) خلّ سيدي يأخذ حريّته في السؤال وأنا أجيب حسب مقدرتي ولا يكلّف الله نفسا إلا وسعها لأن سيّدي الإمام بحرا وأنا لست نقطة ببحره , وإن صدره يتسع لأي خطأ يصدر مني .
فقال له الإمام : يا عزيزي إنك لا تلام في دفاعك عن ضيفك وحفظ كرامته فهو ضيفنا جميعا لا بل أخونا كلنا .
فقلت له : يا سيدي أنا خادم للجميع , فقال : تسلم يا أديب .
أو يؤخّر أجلا متقدّما , فأنت أقسمت اليمين العظيم أن تضرب عنقي في هذه الساعه مع أنّه ربّما أجلي متأخر , فكيف تقدر أن تقدّمه ساعةً واحده , لذلك أقول أيّكم أجهل , فقال هارون : سألتك بالله أن تنبأني عمّا قلته ولك الفضل , فقال الإعرابي : أمّا ما فرض الله عليّ في الدنيا كلّها فهو دين الإسلام فكلّ من تخلّف عنه بعد أن علم به كان هالكا ً لا محال , فقال : صدقت .
سان بالتهليل والتكبير ومشت الأمه خلفه نساءا ورجالا وكلّهم يكبّرون فجاء بني العباس إلى المأمون وقالوا له : والله إذا وصل إلى الجامع وصلّى بالناس لم يعد واحد من الأمة يذكرك لا أنت ولا أجدادك , فانظر بعينك فمن بعد الرسول ما سمعنا ولا رأينا مثل هذا. فصدر الأمر من المأمون أن يرجع الإمام الرضى حيث سيصلّي المأمون بالناس وحملوه بسريره إلى المسجد وصلّى بالناس ومنع الإمامى عليّ الرضا من الصلاة في المسجد .
وبعد شفائه من المرض حار بأمره ما يفعل حيث أنه بايعه بالخلافة وسكّ عملةً باسمه , وذات يوم كان قد أرسل إليه وهو في حجرةٍ خاصّة من بيته سبعة غلمان ومعهم السيوف المسمومة في الساعة السادسة وأمرهم أن يهجموا عليه بسيوفهم , ولمّا دخلوا عليه وبينهم غلام اسمه صبيح , قال له الإمام : ما هذا يا صبيح ؟ فرمى صبيح سيفه على الأرض وهجم الباقون بسيوفهم على الإمام يضربوه حتّى خلطوا لحمه بدمه وعظمه ولفّوه بالبساط الذي كان عنده ومرغوا أيديهم بدمه ورجعوا إلى الخليفة , فقال لهم : ماذا فعلتم ؟ قالوا كما أمرتنا والله خلطنا عظمه في لحمه , فقال لهم : من منكم أول من وضع السيف في جسده ؟ فصار صبيح يرتجف من الخوف أن يقولوا صبيح رمى سيفه على الأرض ولم يضرب , فإذا بالغلمان الستة يصيحون : والله أول من وضع السيف في جسده هو صبيح ثمّ نحن ضربناه , فقال المأمون : إذن الجائزة الكبيرة إلى صبيح , وأعطاهم كلّهم جوائز , ولمّا أصبح الصباح سار المأمون إلى حجرة الإمام عليّ الرضا فإذا به جالساً في محرابه , فرجع المأمون إلى الوراء ورجع من كان معه , وقال المأمون : ويلكم يا ملاعين كذبتم عليّ , فقالوا جميعا , والله إننا خلطنا لحمه بعظمه ولفّيناه في بساطه , فقال المأمون: يا صبيح , قال : نعم يا مولاي , قال المأمون : أنت أعلم منهم ارجع وانظر من هذا الرجل الذي بالمحراب , فرجع صبيح ولمّا دخل عليه صاح به الإمام الرضا (ع) قائلا : يا صبيح قل لهذا الطاغية يقول لك الإمام (( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتمٌّ نوره ولو كره الكافرون )) .
فلمّا رجع صبيح إلى عندهم قال له المأمون : ما رأيت يا صبيح ؟ فأجاب : والله إني لقيته جالسا في محرابهِ وليس به علّة , فقال له المأمون : ما قال لك ؟ فقال صبيح قال لي : قل للخليفة يريدون أن يطفئوا نور الله .......الخ , فلمّا سمع المأمون هذا الكلام اسودّ وجهه ولم يجرؤ على مواجهته ورؤيته , وبعد أيام عديده كان عند المأمون غلام يسمّى (هرشمه ) وهو غلام مولانا عليّ الرضا ويخدم المأمون أيضا , فأرسل إليه مولانا الرضا في الساعه الثالثة بعد منتصف الليل وقال له : يا هرشمة في صباح غدٍ يرسل إليك المأمون ويقول لك : قل للإمام الرضا أن يحضر عندنا وإلا حضرنا عنده , يا هرشمه إن الكتاب بلغ أجله ومرادي ألحق بآبائي وأجدادي حيث أن المأمون هيئ لي السمّ ووضعه في العنب والرمّان وعندما آكل منه وأخرج إلى حجرتي يظهر عليّ ورم ونفخ وسألحق بآبائي , وسيحضر المأمون يريد أن يغسلني فلا تسمح له ولن يتجاسر أن يخالفك ومتى خالفك تقع العقوبة به , وعلم هرشمه سرّاً ما يجري مع الإمام , ولمّا أصبح الصباح أرسل المأمون إلى هرشمة وطلب منه إحضار الإمام الرضا فحضر الإمام إليه فتلقّاه المأمون بالأحضان ثمّ أتاه بالعنب والرمّان وعندها قال هرشمه : لقد أخذتني رعشة عصبية وخرجت إلى غير حجرة وبدأت بالبكاء حتى خرج مولاي من عنده وسرت خلفه وما أن وصلنا إلى الدار حتى ظهر على مولاي الورم والانتفاخ وفارق الحياة بالليل , ولمّا أصبحنا وسمع المأمون حضر إلى دار الإمام وهو يظهر الحزن والأسى وشقّ الثياب , ثمّ قال : اخرجوا عنه حتّى أغسله وأكفنه , فقال هرشمه : لا يغسله إلا إمام مثله , فقال المأمون : من هو ذلك الإمام , قال هرشمه : الإمام محمد الجواد ولده , فقال المأمون محمد الجواد بالحجاز ونحن في خرسانه ما يأتي به إلى هنا الساعه ؟ ! فقال له هرشمه : لا يغسله إلا ولده وسوف ترى , فوقف المأمون وإذا بسجاف ضرب وفسطاط نصب وخيّم على الضريح وكان دقّ الأواني والتسبيح تحت هذا السجاف وإذا بالضريح خرج من تحت السجاف محنّط مطيّب مكفّن , فانبهر المأمون وهو يقول لله درّ الإمام عليّ الرضا من سرّ لم يسمع أحد مثله , ولمّا أرادوا أن يحفروا له القبر بقوا طيلة النهار يضربون بالمعاول كأنّهم يضربون بالحديد , فقال المأمون : يا هرشمه ما السبب في ذلك ؟ فقال هرشمه والله لو حفرتم عاما كاملا لن تحفروا قبرا في المكان الذي تريد أن يكون والدك قبلةً للإمام عليّ الرضا , لأن الإمام قبلة هذه الأمّة كلّها , فأذن لي أن أضرب ضربةً واحدةً في قبلة أبيك فإنّه يُحفر , فأخذ المأمون بيده المعول وأعطاه لهرشمه وقال له : احفر أينما شئت ولو بقبر هارون الرشيد , فاخذ هرشمه المعول بيده وضرب الأرض ضربةً واحدةً من قبلة هارون الرشيد فانشقّت الأرض عن قبر لم يُر مثله بالدنيا , فوقف المأمون مبهوتاً وهو يقول لله درّ الإمام يا له من سرّ عظيم لم نسمع مثله , ثمّ قال : اخرجوا لي حتى ألحده بيديّ حبّا وكرامةً واحتراماً , فقال هرشمه : صبرا يا أمير المؤمنين سوف ترى شيئا أعظم مما رأيت , فنظروا فإذا بالقبر ممتلئا ماءا وظهر به عددا كبيرا من الحيتان الصغار ثم ظهر حوتا كبيرا فأكل جميع الحيتان وكبر حتى ملأ القبر ثمّ غاب الماء والحوت الكبير والناس ينظرون عجبا , فقال المأمون يا هرشمه ما هذا السر وما قال لك الإمام عنه ؟ فأجاب هرشمه : إن هذه الحيتان مثلا لكم يا بني العباس , حيث كان هرشمه قد وضع للحيتان قطعة خبز كانت معه فأكلتها الحيتان الصغيرة وبعدها ظهر الحوت الكبير وأكل جميع الحيتان , ثمّ قال هرشمة : إن هذه الحيتان بعدد خلفائكم يا بني العباس تأكلون من هذه الدنيا بقدر أكل هذه الحيتان من هذه القطعه , ومثل هذا الحوت الكبير سيظهر في آخر الزمان من سلالة سيّديّ إماما يأكلكم كما أكل الحوت الكبير الحيتان الصغيرة , ويملأ الدنيا عدلاً , كما ملأ هذا الحوت القبر , هكذا أسرّ إليّ سيّدي قبل وفاته , فقال المأمون : سبحان القادر على كلّ شيء , ثمّ أراد أن يلحده , فقال هرشمه : لا يلحده إلا إمام مثله , فقال المأمون : من أين تأتي بالإمام ؟ فقال هرشمه : في هذه الساعه , قال المأمون : ومن هو الإمام ؟ قال هرشمه : الإمام محمد الجواد , فمن جاء به من الحجاز حتى يغسّله يجيء به حتى يلحده وسوف ترى ذلك , وبينما هم في الكلام وإذا بفسطاط وسجاف فدخل الضريح تحت ذلك السجاف فدخل الضريح تحت ذلك السجاف وبعد قليل رُفع السجاف وإذا القبر ملحود وطبق عليه الشطايح , فقال المأمون : أنا أردّ عليه التراب , فقال هرشمه : لا بل يُردّ عليه من تراب الجنّة , وإذا بالقبر امتلأ تراباً وعبقت منه رائحة كالمسك وكانت جموع الناس أكثر من خمسين ألف رجل وهم يهللون ويكبّرون لله العزيز القدير على هذا السرّ العظيم حتّى دخلوا بيوتهم , وكان المأمون قد دعا هرشمه سرّاً إلى داره فسأله : ماذا قال لك الإمام قبل وفاته ولا تنكر عنّي شيء ولك مني الأمان , فقال هرشمة : أخبرتك عن كلّ شيء , فقال المأمون : يوجد شيء آخر لم تخبرني عنه , قال هرشمه : عن العنب والرمّان الذي وضعت فيه السمّ , فقد أخبرني عنه قبل وفاته , فلمّا سمع المأمون ذلك الكلام ضرب يدا بيد وقال : ويلٌ للمأمون من عليّ بن أبي طالب وفاطمه والحسن والحسين وعليّ زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وموسى الكاظم وعليّ الرضا , ويلٌ للمأمون وآبائه وأجداده كلّ منهم فردا فردا , وصاح صيحة ً ووقع على الأرض مغشيّا عليه قدر ساعه أو أكثر وهرشمه واقف عند رأسه , ولمّا أفاق ونظر إلى هرشمه قال له : يا هرشمه والله لئن اطلع أحد على ما اطلعت عليه كان ذلك سببا في موتك وما أنت أغلى من عليّ بن موسى فاكتم ما سمعته ورأيته , فقال هرشمه : أمرك يا أمير المؤمنين , ولم يذكر منه شيئا حتى مات المأمون .
فهذه كانت مخالفات المأمون للإمام عليّ الرضا , فلمّا سمع الحضور هذا الحديث التفتوا جميعا إلى الإمام موسى الصدر وسألوه : هل ما ذكره هذا الشاب صحيح ؟ فقال الإمام الصدر : نعم , فصاح الجميع بصوت واحد يعيش الشعب العلوي الذي نشأ منه هذا الرجل ويعيش العلويون جميعا , قلت له وكذلك الإمام محمد الجواد فقد كان المخالف له المأمون نفسه ولكن لمّا رأى منه قدرةً في البلاغة والعلوم وهو في صغر سنّه مما بهر به عقله , زوّجه ابنته أم الفضل وهو شابّ صغير وبعدها سمّمته زوجته أمّ الفضل وأخيها , وكذلك الإمام عليّ الهادي كان المخالف له المعتصم بالله الذي بعث الأتراك ففتشوا أماكنه خوفاً من أن يكون لديه سلاح ويقوم ضدّ الخلافة , ولمّا لم يجدوا شيئا مما كان يظنّ الخليفة , طلبه إليه واعتذر منه وقال له : اطلب ما تريد ؟ فقال الإمام الهادي : أتمنى أن لا تطلبني إلى عندك , فقال المعتصم : لك ما تريد , فأسمعه الإمام الهادي القصيده المعروفة باللامية وبكى الخليفة المعتصم , وكذلك الحسن الآخر العسكري كان المخالف له المتوكّل بالله وقد جعل عليه الرقابه حتّى الوفاة بالسمّ , وكلّ إمام كانت وفاته بالسمّ من قبل بني العباس وبني أميّة فهذا ما علمنا من مخالفيهم يا سيّدي والسلام عليكم .
فلمّا انتهيت من الحديث والحضور ينظرون إليّ قال لهم الإمام الصدر : إنني أقول الحق إن هذا الرجل شيعيّ ولا يوجد شيء من التشيّع إلاّ كان به خليقا , فقال رجل من الحضور للإمام : يا سيّدي إنّ الشيخ حبيب آل ابراهيم ذهب إلى بلاد العلويين وشيّع سبعين ألفاً منهم فلعلّ هذا الرجل من الجماعه الذين شيّعهم الشيخ , فقلت : والله يا أخي ما شيّع شخصاً واحداً من العلويين , فكيف يشيّع العلويين ؟ وإن الشيعه على ثلاث وجوه منهم خاصّ وخاصّ الخواصّ وعامة الشيعه , ونحن بحمد الله تعالى من خاصّ الخواصّ للشيعه فكيف يشيّعنا الشيخ حبيب آل ابراهيم وكيف التشيع حيث أن السيّد الإمام يجزم أنني شيعيّ وأنا أقسم بالله العظيم أنّ العلويين كلهم على هذا المذهب والاعتقاد وأنا أضعف شخص بين العلويين الذين يعرفون الطرائف والحقائق حيث أنني رجلٌ عامّي ولا يسمح لي أن أجلس في مجالس العلماء من العلويين ولا أنا بشيخ ولا أبي ولا جدّي فأين أنت من هؤلاء الشيوخ والعلماء حيث إذا سألت أحدهم عن الأنبياء والرسل من آدم إلى الإمام الحجة لشرح لك عنهم وعن المخالفين لهم والموافقين .
فلمّا سمعوا منّي هذا الشرح قال الجميع : يعيش الشعب العلوي , وبعد برهة التفت الإمام إلى المشايخ عن يمينه وشماله وتحدّثوا بحديث لم أسمعه , ثمّ قال لي : يا بنيّ إن الإخوان يريدون أن تشرح لهم عن هؤلاء الأنبياء الذين يشرحون عنهم علماؤكم , فقلت له : يا سيّدي أنا لا أعلم الشيء الكثير حيث قال الله تعالى ( منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص )) فقال الإمام تحدّث عمّا تعرفه , فقلت : لا أعرف منهم إلا القليل ولكن علماؤنا يشرحون لكم بالتفصيل عن: آدم – أنوش – قينان – مهلائيل – يازد – إدريس – متوشلخ – لامك – نوح – سام – أرفخشد – يعرب – هود – صالح – لقمان – لوط – ابراهيم – اسماعيل – الياس – اسحاق – قصيّ – يعقوب – شعيب – موسى – هارون – كولب – حزقيل – شمويل – طالوت – داؤود – سليمان – اليسع – الخضر – زكريا – عيسى – دانيال – اسكندر – وهنا صاح رجل من الحضور : شو هيك يا شيخ والله ما سمعنا في عمرنا عن هؤلاء الأنبياء , والله لو أراد لعدّ لك ألف نبيّ لم نعرفهم .؟؟ ما هذا ؟! وضجت الجلسة كلّها حتّى صار الإمام يضرب على الطاولة حتّى سكت الجميع , فقال قائل : هل صحيح ما قاله العلويّ ؟ فأجاب الإمام : كلّ ما قاله حقا وصدقاً فسبحان من أعطى الحكمة لمن يشاء من عباده , فقام الحاضرون يحيون الشعب العلويّ الذي يوجد فيه من هؤلاء العلماء وهذه العلوم , وبعد سكوت قصير تحدّث الإمام مع المشائخ عن يمينه وشماله والتفت إليّ قائلا : يا بنيّ إن الإخوان يسألون عن سؤال بعد أن وضعنا فيك الثقة التامّه بأنك صادق وعارف ولم تكتم عنّا شيئا فأخبرنا عن التناسخ ولك الفضل بذلك , فسكتّ مدّة خمس دقائق ولم أجب وكلّهم ينظرون إليّ , فقال الإمام : لمَ لا تجيب عن سؤالي , فقلت : إن قلت لا يوجد في العلوية من يعترف بالتناسخ أكون قد ضيّعت الثقة التي وضعتها بي , وإن قلت لك نعم يوجد من يقرّ بالتقميص وهذا شيء صعب لا يقبله العقل , ولكن امتثالا لأمرك ووقوفا عند ثقتك لا أنكر عنكم شيء , نعم يوجد قسم من العلويين يعترف بالتناسخ , فصاحت الجليسة كلها : لاه لاه ... غيّرتوا رأينا فيكم بهذه السخافة , وقال الإمام : شكرا لقد قلت الصحيح , ولكن هل أنت من هذه الجماعه الذين يقرّون بذلك ؟ فقلت : لا يا سيّدي إنني ممن يخاصم ويناقش هذه الفكرة في كلّ مكان , فقال الإمام : عفارم وكذلك كان ظني بك , ثمّ قال : هل شاهدت جماعات منهم وناقشتهم بذلك ؟ قلت نعم وهم كثيرون ,فقال :هل في البلد الذي أنت فيه منهم أحد ؟ فقلت له: نعم , قال : كم عدد نفوس البلده التي أنت منها ؟ قلت له : ألفي نسمة , قال لي : رأيت العجب, إذن بلدتكم قرية ؟! قلت : نعم , قال هو ذا تعجّبي حيث كنت أظنّ بك وبأمثالك أن تكونوا كفؤاً لمنطقة برمّتها وهذه قرية صغيره يوجد فيها هذه الفرقة ولم تقدروا أن تردّوهم عن هذا التيه والضلال ؟ ! فقلت له : يا سيّدي لا قدرة لنا عليهم , فقال : ما السبب ؟ يعني هم أقوى منكم ؟ قلت له : يا سيّدي ما هي قضيّة قوّة , قال : كيف تقول إذن لا قدرة لنا عليهم ؟ قلت : مما يقدمونه لنا من الحجج الدامغة والروايات البالغة والأحاديث النابغة وفيها كلّها يقيمونا ويقعدونا عجزا , والآن اشهدوا عليّ أيّها السادة الحاضرين أنني أطلب من فضيلة الإمام أن يعطيني معلومات مختصرة وحجة مفيده كي نصدّهم بها عن هذا التيه والضلال ولك الفضل أن تكون لي سيّدا ومن الفخر أن أكون لك تلميذا وأقول لهم هذه الأجوبة من السيّد الإمام موسى الصدر , فلمّا قلت له هذا الكلام قال الجميع : يا شيخ هذا الرجل صار له الحقّ عليك , فقال الإمام : تكرم ياأخي وهذا واجبي ولكن بيّن لنا هذه الحجج البالغة التي يقابلونكم بها , قلت : الحجج عديده , قال: ما هي ؟ قلت : الحجة العقلية – الحجة التجريبية – الحجة القرآنية – الحديث النبويّ – وفي كلّ حجة من هذه الحجج يفحمونا فبأيّ حجة تريد أن أقول وأقدّم لك منها , قال الإمام : أقوى وأسند حجة هي عندي الآيات القرآنية , فما هي الآيات التي قدّموها لكم بذلك ؟ قلت: آيات عديده منها قوله تعالى : (( يا أيّها الإنسان ما غرّك بربّك الكريم الذي خلقك فسوّاك فعدلك * في أيّ صورةٍ ما شاء ركّبك )) وقوله تعالى : (( ربّنا أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروجٍ من سبيل )) وقوله تعالى : (( كونوا قردةً وخنازير خاسئين )) وقوله تعالى : (( وجعل منهم القردة والخنازير وعبدة الطاغوت )) وقوله تعالى : (( ثمّ لتركبنّ طبقاً عن طبق )) وقوله تعالى : (( وما من دابّةٍ في الأرض ولا طائرٌ يطير بجناحيه إلا أممٌ أمثالكم ما فرّطنا في الكتاب من شيءٍ ثمّ إلى ربّهم يحشرون )) .... وآيات كثيرة فأرجوك أن تعطيني الجواب عن هذه الآيات الكريمه ولكم الفضل , فقال الإمام : يا بنيّ هذه الأجوبة بحول الله هيّنة , فتبسّمت , فقالوا: نراك ضاحكاً , فقلت : على نفسي لأنها كانت صعبة علينا جدّاً وسيادة الإمام سهلة عليه لأنه بحرٌ ونحن سواقي , فقال الإمام : هذا من أدبك , فقلت : بل أقول الحقّ , فقال : وأمّا قوله تعالى: (( وما من دابّة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم )) يعني كلّ جنس مع جميع الأجناس أمّة أمثالكم , قلت له : كيف ذلك يا سيّدي , قال : أمة الطير أمّة , وأمّة الماعز أمّة , وكلّ جنس من هذه الأجناس أمّة , وكلّهم يأكلون ويشربون ويتناسلون مثلكم , فقلت له : يا سيّدي وغير ذلك , فقال : والسلام , فقلت : هذا آخر جواب عندك ؟ قال نعم لا عندي ولا عند غيري في العالم , فسكتّ ثمّ وضعت يدي على جبيني وقلت : لا فائدة إذن في صدّهم عن هذا التيه والضلال فالآن مع احترامي لسيّدي الإمام أصبحوا غير مبالين بأحد في العالم لأنني عندما أجبتهم بهذا الجواب قالوا لي عند مناقشتي معهم : لماذا سمّيت الأمّة أمّة ؟ أليس لأنّ لها إماماً تأتمّ به ؟ فقلت : ما هو شرط , فقالوا لي : أما قرأت : (( يوم ندعو كلّ أناس بإمامهم )) يعني يوم البعث والنشور , وهل نزل القرآن إلا لمحمّد ؟ وهل كان خطاب الباري تعالى إلا لسيّدنا محمّد حيث قال: (( أمم أمثالكم ثمّ إلى ربّهم يحشرون )) فالذين يحشرون هم غير البشريّة ثمّ قالوا لي : جاوب عن ذلك إن كنت ذي حجّة , هل يمثّل سيّدنا محمّد بالأجناس هو وأمّته ويقول الباري تعالى عن الكلاب والقرود والخنازير والأفاعي والوحوش والحمير (( أمم أمثالكم ثمّ إلى ربّهم يحشرون )) وهل يحشر ويحاسب غير الأمم ؟ وهل سمّيت أمم بلا إمام ؟ وإذا كانوا إليها يحشرون فيما يحاسبهم الباري تعالى ؟ وبما يثابون ؟ وبما يعاقبون ؟ وبماذا أمرت الكلاب وعمّا نهيت ؟ جاوبنا عن ذلك إن كنت من المنصفين ؟ فوقفت يا سيّدي ولم أقدر على الجواب فلو كنت أنت المسؤول فبماذا تجاوب ؟ وإذا تقاتلت الكلاب يقولون : أرسلوا إمامهم ليصلح بينهم وهم يستهزئون فهل عندك حجّة على ذلك ؟ فقال الإمام الصدر : لا عندي ولا عند غيري والجواب معهم صعب على هذا النحو ولا بدّ أن يكون عندهم أعظم من هذا .
قلت يا سيّدي : والآية التي يقول الله تعالى فيها : (( يا أيّها الإنسان ما غرّك بربّك الكريم الذي خلقك فسوّاك فعدلك * في أيّ صورةٍ ما شاء ركّبك )) أعطني الجواب الشافي , فقال : في أيّ صورةٍ ما شاء ركّبك يعني كيفما أراد يركّب الإنسان : أسود , أبيض , أشقر , فهذا معناهما وربنا أعلم , قلت سيّدي قلنا لهم هكذا فردّوا علينا ردّاً صعباً , قال كيف , قلت : قالوا هذا الكلام يخالف ما جاء به القرآن لأن القرآن يقول توبيخا (( يا أيّها الإنسان ما غرّك بربّك الكريم الذي خلقك فسوّاك فعدلك * في أيّ صورةٍ ما شاء ركبك )) أي عدلك عن الصورة الأولى الصورة البشرية لأيّ صورة من هذه البشريّة , هل قال بأيّ لون ما شاء ركبك ؟ أو بأيّ شكل ؟ أو بأي هيئة ؟ بل قال الله بأي صورة فالصورة البشريّة كلّها صورة واحدة , وصورة البقر كلّها صورة واحدة , والخنازير كذلك والقرود , ...الخ وكلّ نوع من المخلوقات مختصّ بصورة , فكيف تحوّلون المعنى عن موضعه ظاهراً عياناً وبياناً وهذا العجب العجاب منكم تحوّلون المعنى عن معناه , فلم نستطع الردّ , فقال الحاضرون للإمام : إنّ كلامهم لهو الحقّ المبين والصورة البشريّة صورة واحدة فهل عندك جواب على كلامهم ؟ أجب الرجل , قال الإمام الصدر : لا ما عندي وما ولا عند غيري من العالم , قلت : والآية التالية قوله تعالى : (( ربّنا أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل )) ما هو الجواب ؟ قال : يعني نموت الآن ثمّ يحيينا يوم البعث ثمّ يحيينا بعد فتكون ميتتين اثنتين , فقلت : يا سيّدي قلنا لهم ذلك فما قبلوا بهذا حيث قالوا : إنّ الذين يقولون هذا القول جاري الموت عليهم مرّات والحياة مرّات قبل البعث والنشور ثمّ إن كلامهم ماضٍ في الزمن الماضي فهل صارت قيامة وبعث ونشور ؟ فقلنا : لا , قالوا : كيف تقولون يميتنا ثمّ يحيينا يوم البعث والنشور ؟ وهؤلاء القائلين ربّنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروجٍ من سبيل , فكيف جوابكم ؟
فوقفنا محجورين , فهل عندكم جواب لذلك غير هذا الجواب , فوقف الأمام وقال الحاضرون : بيدهم الحقّ إمّا أن تعطيهم الجواب المقنع وإلا فالتناسخ حقيقةٌ واقعة , فقال الإمام : صحيح ما صار بعث ولا نشور ولكن القرآن فيه محكم ومتشابه , فقلت له سيّدي قلنا لهم القرآن يدلّ على ماضٍ وآتٍ , فقالوا لنا نعم لكن ليس في هذا الموضع بل القول واضح إنّه ماضٍ حيث يقولون : ربّنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ولم يقولوا ويحيينا وسوف يميتنا فهذا كلام ما له تعريف أبدا وقد أفحمونا فكيف سنقنعهم ؟ أرجو منك الجواب الوافي , فقال له شيخ من الحاضرين : حقّاً إنها مشكلة ولهم الحقّ بالاحتجاج , ثمّ قلت : سيّدي والآية : (( كونوا قردةً خاسئين )) والآية ( وجعل منهم القردة والخنازير )) فقال : يا بنيّ إن الله غضب على بني اسرائيل فمسخهم قردةً وخنازير , فقلت له : قلنا لهم ذلك , فقالو : ألم يغضب الله إلا على بني اسرائيل ؟ وقبل بني اسرائيل ؟ أما كان يوجد قردةً وخنازير , قلنا لهم : نعم كان يوجد , فقالوا : بني اسرائيل لم يدّعوا الربوبية مثل النمرود وفرعون وغيره فكيف والقول (( وجعل منهم الفردة والخنازير وعبدة الطاغوت )) من هم إذن إذا لم يكن تناسخ ؟ فما الجواب يا سيّدي ؟
فوقف الإمام ولم يردّ الجواب , فقلت : ما تقول لو كنت مقابلا لهم ؟ فقال : لا أقول إلا ما قلته لك, فقلت بهذا القول رددنا فقالوا هو إلى يوم القيامة وعبدت الطاغوت هم الأضداد في كلّ عصر وزمان يتناسخون بالكفر والضلال والذين مسخوا من بني اسرائيل وغيرهم مسخوا بعد الموت عدلا من الله تعالى , وكلّ ما في هذه الأرض من جميع هذه الأجناس قد كفروا بالله تعالى فكانوا أمما أمثالنا حيث قال الله تعالى يخاطب الرسول محمّد (ص) (( وما من دابّة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم )) وحاشى لله تعالى أن يمثّل سيّدنا محمّد وأمته إلا بإسمٍ أمثالنا ولا يمثّله وأمته بالكلاب والخنازير والبهائم , ولو قلنا لك يا حضرة الأخ مثلك مثل الحمار فهل ترضى بذلك ؟ فقلت لهم : لا , فقالوا : أتمثّل سيّدنا محمّد وأمته بتلك الأجناس من المسوخ البخسة؟! أرجو يا سيّدي أن تعطينا جوابا عن هذه الحجة العقلية أيضا , قال وماذا يقولون عن الحجة العقلية ؟ قلت : قالوا لي : ما تقول عن رجلين أخوة تربيا في بطن واحد ومن أم وأب واحد , الأول خلق أعمى والثاني صحيح الجسم , الأول يزحف على رجليه والثاني يمشي سالما , الأول مفلوج والثاني لا عيب فيه (بجسمه ) خلق يصوم ويصلي ويتمتع بجميع ألوان الحياة والأول يعيش بالإهانه والعذاب إلى آخر العمر , فإذا لم يكن هناك تناسخ وقصاص فهل هذا عدلا إلهيا وحاشى لله والظلم وهو يقول : (( وما يظلم ربّك أحدا )) (( وما أصابك من حسنةً فمن الله وما أصابك من سيئةً فمن نفسك )) فقالوا : جاوب على ذلك إن كنت من المنصفين , فوقفت يا سيّدي عاجزا عن الجواب عن الجواب , ثمّ قالوا لي : ماذا تقول عن طفلٍٍ رضيع وُلدَ صباحاً ومات مساءً من أبٍ مؤمن أو كافر , هل يدخل الجنة أم النار ؟ فماذا فعل كي يدخل النار ؟ وهل يدخل الجنة أو النار بشفاعة أو بذنب والده ؟! والله تعالى يقول : (( لا مولود هو جازٍ عن والده شيئا)) وإن قلت كلّهم إلى الجنة تمنّى والده أن يموت صغيرا كي يذهب إلى الجنة , وقد سمعنا إنّ سيّدنا عيسى (ع) تكلّم بالنبوّة طفلا صغيرا , فماذا تقول بذلك أيها الرجل ؟ فوقفت مبهوتا بدون جواب فما تقول أنت يا سيّدي ؟ وما الجواب ولكم الفضل .
فقال الإمام : الجواب صعب جدا وإنك مقدور ولا قدرة لك على ذلك والشيء مرجعه إلى الله وهو أعلم بذلك , فصاح الحاضرون : إذا ثبت قولهم بيّن لنا ذلك حيث كلّنا قانعين بالتناسخ , وأخذ الجميع ينادي الإمام : ما هو الجواب ؟ وهو ينظر إليّ , ثمّ قلت له : سيّدي قالوا لي : ما تقول في نفسك إذا أنت توفيت ؟ أللجنة أم للنار ؟ فقلت لهم : إنني بحول الله للجنة حيث أوالي أمير المؤمنين وآله , فقالوا : جسمك الحالي يصعد للجنة أم يبقى في القبر ؟ فقلت : باقٍ في القبر, فقالوا : إذا دخلت الجنة تدخل بجسم أم بدون جسم ؟ فقلت لهم بجسم , قالوا جسمك يبقى في القبر فمن أين لك ذلك الجسم الذي تدخل به الجنة ؟ هل تقمّصت في الجنة أم بجسمك هذا ؟ فإن قلت بجسمك هذا نسيت أن عظامك موجودة في القبر وإن قلت بجسم غيره أثبتّ بأنك تقمصت في الجنة , فإن كان تقمّصك في الجنّة حقّ فكيف لا يكون في الدنيا تقميص ؟ ما تقول في ذلك أيّها الأخ المجادل دون علم ومعرفة ؟ فوقفت مبهوتا وهم يقولون : ماذا تقول أيّها الرجل ؟ , أرجو أن تعطيني الجواب المقنع لهم يا سيّدي الإمام , فسكت وهو ينظر إلى يمينا وشمالاً إلى الجلساء وقال: حقّاً كلاماً يُقال !!
فنهض رجلٌ كهلٌ من الحضور وقال لي : ما اسمك أيّها الشاب الكريم ؟ فقلت : مرعي الحمدو , فقال لي : يا مرعي ليش تقول قالوا لي وأنا أقول ؟! والله ما قالوا لك ولا قلت لهم بل أنت تقول وتعتقد ذلك , ولماذا أنت مخجول ؟
وقام ووقف على رأس الإمام وقال له : هو مخجول وهذا هو اعتقاده فهل لديك جواباً مقنعاً أم هم المحقّون ؟ لقد كنّا نستهزئ بهم ونسفههم والآن بان الحقّ معهم , فتفضل أعطنا الجواب وإلا نشهد بأنهم أهل اليقين والحجة الدامغة .
فقال الإمام : لا يوجد عندي إلا ما قلته ومن الصعب الردّ وفوق كلّ ذي علمٍ عليم .
وعندما سأل الحضور الإمام من أين للعلويين هذا العلم ؟ أجابهم بأنهم استقوا هذا العلم من الفرس كونهم جاؤوا من بلاد فارس .
وقد دامت الجلسة حتّى الساعة الواحده ليلا وقمت وودّعت الإمام والحضور وعيونهم ترمقني , وقد دعاني في اليوم الثاني لتناول طعام الغداء معه فحضرت وحضر جمع كثير وكانوا ينظرون إليّ بالإعجاب والتقدير .